تفصيل المقال
السجن يحرّر من الأنانية وعبادة الذات، وهو إرادة تَحدّ لا تُحدّ، بل معركة فعلية بين ذلّ الموقف وعظمة الانتصار للقضايا الكبرى.
تنتمي "حرية الضوء" لنصري حجازي الصادرة حديثاً عن دار الولاء إلى ما بات يعرف عالمياً بأدب السجون، وتكتسي فرادتها من انتمائها إلى أسرة الروايات النابتة في أقبية السجون الإسرائيلية، وعلى خطى الكتّاب العرب والفلسطينيين. وتنحو" حرية ضوء" الحائزة على جائزة سليماني العالمية لأدب المقاومة المنحى التصويريّ لمعاناة الأسير اللبناني في السجون الإسرائيلية، كاشفة واقعاً معتماً ومعركة لم تغب يوماً عن اهتمامات المتابعين للصراع العربي-الإسرائيلي.
الفكرة الأساس التي يقوم عليها أدب السجون هي أن سبب الاعتقال سياسي، وهذه الفكرة تشكّل المجال المشترك الذي انطلق منها أدباء كبار كعبد الرحمن منيف في "شرق المتوسط"، والطاهر بن جلون في "تلك العتمة الباهرة"، وصنع الله إبراهيم في "تلك الرائحة"، وفاضل الغزاوي في "القلعة الخامسة"، ونقطة التقاء مع كتّاب عالميّين ومناضلين أمثال: لوركا، ونيرودا، وناظم حكمت، ويوليوس فوتشيكو.
سجّل هؤلاء المبدعون تجاربهم في هذه القضية الجماعية من وراء القضبان منحازين إلى القضية الوطنية الكبرى التي تعني الأمة كلها، ولا تعود بأي حال من الأحوال إلى قضية فردية أو جنحة أو جريمة شائنة.
وسبب الاعتقال في "حرية ضوء" ليس قضية فردية، فهذا معتقل لأنه مقاوم، وذاك لأنه أخفى معلومات، وخبّأ مقاوماً، وذاك لأنه أب أو أخ لمقاوم، وتلك لأنها أم أو أخت لمقاوم. أما الكاتب فقد ألقي القبض عليه وأودع في معتقل الخيام لأنه صاحب رأي مناهض للاحتلال أدلى به في إحدى الأمسيات الثقافية القروية. تعدّدت أسباب الاعتقال والنتيجة واحدة، وهي القهر وحجز الحرية.
السمة الثانية البارزة في هذا النوع الأدبي هي المكان، فالمكان الروائي هو السجن، وهو مكان ضيّق يشبه القبر. فالسجن ليس سوى قبر آخر بتفصيل متفرّع عنه. في هذا المكان-القبر، يسجن الجسد وتطلق الروح في فضاءات لا حد لها، على أن هذه الفضاءات مهما اتسعت تبقى في نظر الأسير فضاءات وطيئة خبيئة، تحتشد فيها الذكريات والأمنيات والأحلام المجهضة والأجنحة المتكسرة، على حد تعبير جبران خليل جبران.
أما الشخصيات الروائية فهي المعتقل والمعتقلون وحديث الراوي عن نفسه وعن زملائه، فهو المتحدث والمتحدث عنه وعنهم في هذا المكان الروائي الضيّق الذي يتسع لكل أحاديثهم وذكرياتهم وأمنياتهم.
أما الرؤية فهي تسعى إلى إنتاج فكرة تبرّر احتمال كل هذه المعاناة، والسير في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي أراده السجّان، وهو قتل الروح وفرض نوع من القوقعة والعزلة التي لا تنتهي أبدأ حتى بعد خروج الأسير من الاعتقال، وهذا ما رأيناه في شخصية رضا الذي خرج من المعتقل مباشرة إلى محاور القتال.
'' -أتصدّقني إن قلت لك إني أحمد الله بكرة وعشية أن مصيري كان الاعتقال؟ في نفسي ما يدعوني إلى الشكر والحمد وتلك السنوات عرّفتني نفسي، وفهمت ما يدور حولي، نحن بالتأكيد محظوظون أن وضعنا في الزنزانة التي نحن فيها الآن".
ويبقى الخيال السلاح الأكثر حدّة الذي يلجأ إليه الكاتب لمواجهة آلة التعذيب الصهيونية، ويختاره معادلاً موضوعياً للقيد، فكلما أمعن السجّان في التعذيب من ضرب على أماكن حسّاسة، وخنق بالكيس في الرأس، وكتم الأنفاس، وتعصيب العينين، والشبح، والهزّ العنيف بعد تقييد اليدين للخلف، وخلع الأظافر، وتحطيم الأسنان، كلما ابتعد السجين عن الواقع وأسرج أحصنة الخيال، لتتجاوز القضبان وتمضي خارجها في شعاب القرى والدساكر، تتجاوب لصهيلها الفجري الحزين التلال والوديان، كأنّ الخيال هنا طوق النجاة الوحيد في بحار التنكيل والاستبداد، ووسيلة لتزجية الوقت الثقيل.
أما الزمن الروائيّ فهو عبارة عن يوم مستنسخ، وأيام تترى تشبه أياماً تتخللها الذكريات والحنين إلى الأهل والأصحاب والقرى، إلى الحد الذي لا يجد معه الأسير ما يدفع به الملل عن نفسه إلا بصناعة مسبحة من حبات الزيتون وإرسالها إلى أمه من المعتقل. يتسرّب ملل السجون إلى سطور الكاتب ومنها إلى القارئ فتختلط على القارئ الأحداث والشخصيات ومصائرها، وتنوس الكلمات حتى تكاد تنطفئ.
ولا تلبث الرواية أن تعود إلى الاشتعال واستعادة حيويتها عندما يلتقي الأسير فاضل بالمعتقلة فاطمة، في إثر انتفاضة المعتقلين والمطالبة بتحسين ظروف العيش في السجن كالاهتمام بالوضع الصحي، ونقل المرضى إلى المشافي عند الضرورة وزيادة الحصص الغذائية، والتركيز على نظافة الأطباق، ونوعية الوجبات، والسماح للأهل بالزيارات وإدخال الصحف، والسماح بإرسال الرسائل والراديو لمتابعة الأخبار.
يتحرّك العملاء لقمع الانتفاضة بالقوة، ويقع الكثير من الجرحى على أثر هذه المواجهات، ويتم نقل الجرحى والمصابين إلى المشافي القريبة، وفي الطريق إلى المستشفى يتعرّف فاضل إلى فاطمة ويقع في حبها، وبعد العودة إلى السجن يتبادلان الرسائل الغرامية بواسطة رشوة الحارس بمبلغ قدره 50 دولاراً يعد فاضل الحارس بدفعها له في أول زيارة للأهل إلى المعتقل.
وعلى خط موازٍ يعود الدم ليتدفّق في شرايين السرد، عندما يخرج رضا من المعتقل ويلتحق بالمقاومة ويصبح من قادتها الميدانيين الذين يحسب لهم العدو ألف حساب.
يعمل رضا فور خروجه من المعتقل بوحدة الإسناد الناري التابعة للمقاومة الإسلامية، ونظراً لكفاءته القتالية يصبح من قادة العمليات، "ولم يعد وقته يسمح له إلا بزيارات قصيرة وخاطفة، يتفانى في عمله، ويحصد الأوسمة تباعاً، وينوّه به وبمجموعته بعد كل عمل نوعي يقومون به. الهم الوحيد الذي يقضي مضجعه كان تحرير بقية الأسرى من المعتقلات الإسرائيلية"، الأمر الذي يدفعه إلى التخطيط لعملية خطف جنود صهاينة لمقايضتهم برفاقه الذين كان معهم في السجن.
بعد دراسة وتخطيط ورصد دام لأشهر تهاجم مجموعة رضا دورية إسرائيلية وتعود بأسيرين محمولين على الأكتاف، يفي رضا بعهده لإخوانه بتحريرهم من السجن، لكن رضا لا يعود لأنه يستشهد أثناء تغطيته النارية لرفاقه المنسحبين.