مقالات وبحوث

تفصيل المقال

مهمّـة فـي ديزنغـوف (*) كلمات  فصل من رواية  فتح الله عمر  السبت 3 شباط 2024

مهمّـة فـي ديزنغـوف (*) كلمات فصل من رواية فتح الله عمر السبت 3 شباط 2024

(*) فصل من رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب السوري فتح الله عمر ـــ حازت المرتبة الثانية في «جائزة سليماني العالميَّة للأدب المقاوم» في دورتها الثانية (2022) عن فئة الرواية. تصدر قريباً عن «دار أسفار للثقافة والإعلام» في بيروت. إقرأ في «الأخبار»: مهمّـة فـي ديزنغـوف (*) https://al-akhbar.com/Kalimat/376085

في بناية عادية في ضاحية بيروت الجنوبية، لا يمكن أن تلفت انتباه أحد، ثمة مكتب سفريات، في الطبقة الثانية، ذو شعبتين: داخلية ترفيهية، وخارجية تنظم رحلات سفر لبعض الدول، وأماكن الإقامة فيها، ومدتها. وإلى اليسار، حمّام ذو باب خلفي موصل إلى شقة صغيرة جعلها المقاومون غرفة عمليات معلوماتية. في هذه الغرفة، تظهر بضع شاشات مقطعة، وستة حواسيب محمولة، وشاشة كبيرة جداً، وهاتفان حديثان موصولان بشبكة الاتصالات الداخلية لـ «حزب الله».. وإلى يمينها غرفة زجاجية مخصّصة لمسح المنطقة إلكترونياً منعاً لأي اختراق أو خلل أمني. وفي أقصى يسارها، طاولة اجتماعات كبيرة تحلّق حولها خمسة أمنيين من المقاومة يقودهم الحاج ساجد.

ي بداية الاجتماع، كان الترقب سيد الموقف؛ إذ من المستحيل أن يدعو الحاج ساجد رجاله إلى الاجتماع قرابة منتصف الليل إن لم يكن الأمر جللاً. قرأ عليهم رسالة جاءته قبل ساعة واحدة من غزة، تتضمّن عرضَ بَازِيتْ بالتفصيل، وتأكيد الإخوة هناك أنّ تجربتهم مع هذه المرأة وشقيقها كانت مثمرة دائماً، ومعلوماتهما دقيقة تماماً.
وجم جميع الحاضرين بذهول، فيما تابع الحاج ساجد بوقاره المعتاد وهو ينقل بصره بين أعضاء فريقه:
- هذه كل المعلومات التي وصلتنا من إخواننا في غزة. وكما ترون، كل الاحتمالات واردة. فمن الممكن أن تكون كل المعلومات صحيحة، أو كلّها مفبركة، أو بين هذا وذاك.

■ ■ ■


الحاج ساجد مسؤول بارز في أمن المقاومة. مشرق الوجه، هادئ، وقور، حاد الذكاء، ذو ملامح وادعة، وبنية ضعيفة. لا ينفعل أبداً، يفكر كثيراً قبل التكلم، فإذا تكلم يتكلم بتأن. نظراته عميقة، حاذقة، غامضة، وصوته ذو رنّة مميزة توحي أنه لشاب عشريني، مع أنه بلغ الخمسين قبل تسع سنين. مشهور بأنه على النقيض من الآخرين الذين ينهمكون بالبحث والتفتيش عن شواهد إثبات تؤكد أفكارهم، فهو مغرم بالبحث عن الشواهد المعاكسة لأي فكرة تخطر في باله، أو يقترحها أحد عليه، ويدعو الآخرين أن يبذلوا طاقاتهم كلها لنقضها، فإن وجد في نهاية المطاف أنّ الشواهد المعاكسة صحيحة يتراجع عن فكرته فوراً، وإن وجدها ملتبسة يزيل غموضها، ويعتمدها، ويبني عليها قراراته.
منذ بداياته، شهد له رفاق دربه بقوة الإرادة والحزم في القيادة، وأنه في العمل لا يكلّ ولا يتعب، وأنه يجمع بين القوام العسكري الفارع وعدم التسامح والتساهل مع نفسه أو مع رفاقه، وبين الطيبة ودماثة الخلق وصفاء الروح.
ظهرت أول ملامح عبقريته الحربية إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. يومها، سمع بخبر اندفاع الجيش الإسرائيلي نحو تخوم بيروت، فذهب مع ثلة من أصدقائه للقائهم. خمّن أن العدو سيفتش بدقة وحذر البنايات الأولى، وحين يجدها فارغة سيفقد حذره، ويتقدم من دون تفتيش نحو باقي البنايات، لذا ترك العمارات الخمس الأولى في أول الشارع، وتمركز مع رفاقه في العمارات التي بعدها. بعد بضع ساعات، اتضح أن تخمينه كان صائباً، واستطاع مع مجموعته ضرب دبابة وناقلة جند إسرائيلية. في اليوم التالي، فتحت استخبارات الجيش الإسرائيلي ملفاً باسم محمود عبد الجبار، وهو الاسم الحقيقي للحاج ساجد، بتهمة مقاومة إسرائيل، فيما راح ساجد يتنقّل من محور إلى آخر. من خلدة إلى كلية العلوم جنوب شرق بيروت، إلى الكوكودي غرب الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى شاتيلا... ثم ما لبث أن ألّف مجموعات للمقاومة في بيروت والبقاع الغربي والجنوب، بدأت بشنّ سلسلة عمليات على دوريات للعدو، ونَصْبِ الكمائن وقنصِ الجنود وقصف التجمعات بالصواريخ. الأمر الذي جعله أحد أكبر مطلوبي الاستخبارات الإسرائيلية، وخصوصاً بعد اتهامه بالضلوع في تفجير ثلاثة مواقع إسرائيلية في جنوب لبنان، واغتيال عدد كبير من قادة الجيش الإسرائيلي، وجيش لحد، لكنّ كل جهودهم في القبض عليه ذهبت أدراج الرياح. وبعد التحرير عام 2000، انغمس الحاج ساجد في العمل الأمني وفكك عشرات شبكات التجسس لعملاء العدو الإسرائيلي في الداخل اللبناني. والأهم من هذا كله أنه زرع عدداً من المتعاونين مع المقاومة، في فلسطين المحتلة، لم يستطع العدو مطلقاً كشفهم، أو حتى تحديد عددهم.

■ ■ ■


صمت الجميع برهة قبل أن يعلّق زين، وهو أصغر أعضاء الفريق عمراً، وأعظمهم جثة، بأنه يشعر كأنّ رواية بازيت من نسج الخيال؛ إذ رغم تاريخ إسرائيل الحافل بمئات المجازر، فإن الوضع الآن قد تغيّر، ومن المستحيل أن تجرؤ على تنفيذ هجوم كهذا.
رَدَّ عليه حسان وهو يرشف رشفة قهوة:
— هذا رأيي أيضاً. لولا أنها قالت بأن «داعش» هو من سينفّذ الهجوم.
نقل زين بصره نحو رئيسه وسأله عن رأيه، فأوضح ساجد أنّ هناك نقطتين لمصلحة بازيت: الأولى أنها فعلاً شقيقة ضابط كبير في الموساد قادر على الوصول إلى معلومات كهذه، والثانية أن الإخوان في غزة أكدوا بحزم أنها طوال مدة تعاملها معهم لم تعطهم معلومة كاذبة. في المقابل، هناك نقطة جوهرية ضدها، هي أنهم لا يملكون أدنى دليل على صدق كلامها، فقد يكون شقيقها المقدم حاييم صادقاً مع الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته أحبّ أن يلعب معنا لعبة كبيرة حتى يثبت جدارته أمام رؤسائه.
برقت عينا حسان العسليتان ببريق غريب، وأوضح أنه ميّال إلى التشكيك في رواية المرأة، فابتسم الجميع من دون استثناء. كانوا يعرفون رأيه قبل أن يدلي به، فهو دائم الريبة في كلّ شيء.. وللحقيقة ،فإن شكّه وحذره المبالغ بهما قد أنقذا عمليتين من قبل، وكشفا للمقاومة عميلاً داهية كان الجميع يظنونه نبراساً للتقى والصلاح.
سادت برهة من المزاح اللطيف اشترك به الجميع إلا الحاج ساجد الذي أعادهم سريعاً إلى قضيتهم الرئيسة.
هزّ خضر رأسه مستبعداً احتمال كون الأمر خدعة، مسوغاً رأيه بأنه كان في مقدور حاييم بَعْثَ الرسالة مع أحد آخر غير ظافر، وأنه من المستحيل أن يغامر بكشف الشخص الذي يسرّب عبره معلومات إلى الفلسطينيين.
ردّ ساجد بعد تفكير عميق:
— نظرياً كلامك صحيح، لكن ثمة احتمال أن يكون قد فكر بطريقة مختلفة. إذا انكشفت علاقة شقيقته بظافر في يوم من الأيام؛ حينها يدّعي أنه كان يستخدمه لاختراقنا.
اقتنع الجميع بكلامه، وتساءل زين بحيرة عما ينبغي فعله. وضع الحاج ساجد يديه على ركبتيه كأنه يتأهب للنهوض وغاص في أفكاره وهو يتمتم:
— قبل أي شيء، ينبغي أن ندرس ونحلل معلومات بازيت، ونقاطعها مع المعلومات التي تأتينا من مصادرنا الأخرى. وأثناء ذلك، سنجري اختباراً محكماً لها ولشقيقها ونعرف الحقيقة.

■ ■ ■


في ضحى اليوم الثالث، استلقتْ بازيت عند حافة أحد المسابح في «هاواي غراند»، رنّ هاتفها الجوال، قرأت اسم ظافر، أجابته عبر اللاقطة المثبتة في أذنها:
— تأخرت كثيراً في النوم يا عزيزي، لقد سبقتك إلى المسبح.
رشف ظافر رشفة من كأس العصير، وهو يجلس باسترخاء على كرسي وثير قرب نافذة غرفته المطلة على المسبح، وقال:
— وافق الأصدقاء على شراء المنزل، يريدون مقابلتك لمعاينته.
— أنا جاهزة للقاء، والمنزل على أفضل ما يرام.
أغلق ظافر الهاتف، وتوجّه نحو الباب بعدما سمع صوت طرقتين خفيفتين عليه. كان القادم شابٌ في العقد الثالث من العمر، مربوع القامة، قوي البنية، أصهب الشعر، في وجهه بعض النمش. تمتم الزائر محيياً بصوت خفيض:
— سلامات قدسية.
افترّ وجه ظافر عن ابتسامة ارتياح، فهذه هي كلمة السر للتعارف، وأشار لضيفه بالدخول مدمدماً:
— القدس بوصلتنا كلنا.
دخل الضيف، فيما أغلق ظافر الباب بسرعة، وأشار بضرورة البدء فوراً؛ إذ من الخطأ والخطر أن يطول لقاؤهما. هزّ مهدي رأسه موافقاً، فيما أراه ظافر صورة بازيت، وأنبأه بأن اللقاء سيكون بعد ثماني ساعات في لارنكا كما أراد مهدي وقيادته. حدّق مهدي ملياً في الصورة، ثم شرع في مناقشة التفاصيل مع مضيفه.
دام حديثهما نصف ساعة. بعدها خرج مهدي أولاً، ثم ظافر بعد خمس دقائق، باتجاه إحدى حدائق الفندق، تمشى صوب بازيت التي لوحت له بمنديل حريري أزرق. حثّ الخطى نحوها مسرعاً، ولما أصبح قبالتها تساءلت بقلق إن كان كل شيء على ما يرام، فطمأنها تماماً، وبيّن لها أنّ التأخير الحاصل سببه حرص المشتري على بعض الإجراءات قبل الدفع.
هدأت أسارير بازيت وتساءلت:
— متى اللقاء؟
— سنفترق الآن لنلتقي على وجبة غداء في مطعم، على الأقل لنعوّض عشاء الأمس السريع. وبعدها سنذهب إلى لارنكا حيث يكون المشتري بانتظارنا هناك.

■ ■ ■


بعد وصوله إلى لارنكا، توجّه مهدي وقد غيّر شكله بنظارات شمسية، وتسريحة القنفذ، ومثبّت لامع لشعره المصبوغ حديثاً باللون الأسود الداكن، وطقم جينز كحلي، إلى حديقة ميليوس التي تُعتبر واحدة من أجمل حدائق الحيوان في أوروبا. تظاهر طوال الوقت بأنه مستمتع حدّ الثمالة في مشاهدة الحيوانات والطيور الجميلة التي تم جلبها من جميع أنحاء العالم قبل أربعين عاماً، التقط صورة لنفسه قرب طائر أبو سعن الأفريقي، وأخرى قرب وشق أوراسي، وثالثة مع كنغر أسترالي... لكنه في الحقيقة لم ير شيئاً مما رآه، ولم يميّز الدبّ الروسي عن سلحفاة غالاباغوس؛ لأن اهتمامه الحقيقي كان مركّزاً على كشف أي شخص يتعقبه أو يراقبه.
بعد ساعة ونصف الساعة، خرج من حديقة ميليوس وتوجّه إلى مسجد هالة سلطانة. تجوّل في أرجائه وكأنه سائح مفتون. التقط لنفسه صوراً كثيرة، وحرص أن تظهر في الصور وجوه كل من كان في المسجد. ثم انتحى ركناً قصياً منه، وهناك جلس وبدأ يتأمل الصور التي التقطها بحثاً عن أي شخص مشترك بين صور الحديقة وصور المسجد، ولما لم يجد أي تطابق تنفس الصعداء، وخرج متوجهاً نحو مطعم «ليفكار» القريب.
بدت المساحة واسعة بين منضدة وأخرى في المطعم الهادئ، ذي الإنارة الخافتة، والموسيقى الناعمة. جابت الفتيات بقمصانهن البيض، وتنوراتهن البنفسجيات القصيرات بين الزبائن لتقديم الخدمات لهم، أما مهدي فقد جلس على منضدة منفردة في ركن منعزل، يتناول وجبة سمك التونا بتأنٍ، وهو يراقب رفيقيه المنسجمين في دور تمثيلي لتاجرين سوريين، وما إن أكمل وجبته حتى طلب الفاتورة ليسبقهما إلى سيساك بيتش، بعدما أرسل رسالة إلى هاتف ظافر.
وقف مهدي عند كشك لبيع المرطبات وطلب زجاجة كولا. ناوله صاحب الكشك عبوة باردة، شرب منها وهو يتلفت يميناً ويساراً، بانتظار ظهور ظافر وبازيت. نظر إلى ساعة يده بترقب، ثم ذهب يتمشى بهدوء صوب شاطئ سيساك، ينتظر قدومهما.
مرت الدقائق بوطأة ثقيلة، اتصل بظافر عدة مرات فلم يرد عليه، أدرك أن مكوثه هنا بلا فائدة، فعاد إلى الفندق، وجلس في صالة الاستقبال يترقب إشارة أو رسالة أو مكالمة. طال انتظاره، واتصل مرتين من دون أي ردّ من ظافر.

■ ■ ■


في تلك اللحظات العصيبة، كان يجري في أحد أقبية إدارة الموساد في تل أبيب تحقيق صارم مع حاييم أدموني.. بدا الرجل مصدوماً مذهولاً، لا يكاد يصدق أنه وقع في الفخ وانكشف أمره أمام محقق نحيف، متوسّط الطول، خفيف السمرة، شعره مصبوغ بغير عناية، وعيناه صغيرتان ماكرتان تجعلان الناظر إليهما يشعر بقلق مبهم يعقبه ذعر مريع. حدجه المحقق بنظرة باردة، وغمغم بهدوء يشبه الموت وهو يحكّ شامة سوداء في أسفل ذقنه:
— ماذا تفعل شقيقتك بازيت في قبرص؟

(*) فصل من رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب السوري فتح الله عمر ـــ حازت المرتبة الثانية في «جائزة سليماني العالميَّة للأدب المقاوم» في دورتها الثانية (2022) عن فئة الرواية. تصدر قريباً عن «دار أسفار للثقافة والإعلام» في بيروت.

مواضيع مرتطبة